حجز الأماكن في المساجد- سلوكيات العشر الأواخر تستحق التأمل

المؤلف: فراس طرابلسي09.30.2025
حجز الأماكن في المساجد- سلوكيات العشر الأواخر تستحق التأمل

في غياهب ليالٍ مباركات كالتي نعيشها، حيث تتنـزل رحمات السماء وتتفتح أبواب المغفرة على مصراعيها، يهرع المؤمنون إلى بيوت الله، متشوفين إلى نفحات العشر الأواخر من شهر رمضان الفضيل، طمعًا في إدراك ليلة القدر العظيمة، تلك الليلة المباركة التي تفوق في فضلها ألف شهر. وفي هذا التنافس الشريف، تبرز بعض التصرفات التي تستدعي منا وقفة للتأمل العميق والمراجعة الصادقة، وأول هذه التصرفات حجز الأماكن داخل المساجد للأقارب والمعارف والأصدقاء، قبل حضورهم الفعلي إلى رحاب المسجد.

قد تبدو النية ظاهريًا نبيلة، ومبنية على التعاون والتآزر على فعل الخير، ولكن يجب أن نتذكر دائمًا أن الغايات النبيلة لا تبرر أبدًا الوسائل المخالفة للشرع والأخلاق. فالمسجد هو بيت الله الحرام، ومقاعده وأركانه ليست ملكًا لأحد من البشر، ولا يجوز لأحد أن يستأثر بها دون غيره، خاصة كبار السن الذين أرهقتهم السنون، أو أولئك الذين قطعوا المسافات الطويلة طلبًا لخشوع القلب وسكينة الروح.

تجسد القاعدة الفقهية الراسخة «ما وُضع بغير حق، فرفعه حق» هذا المعنى بوضوح وجلاء. فمن استولى على مكان في المسجد بغير وجه حق، ثم جاء شخص آخر وأزاحه ليجلس مكانه، فلا إثم عليه في ذلك شرعًا، بل هو الأجدر والأحق بذلك المكان. وهذا المعنى تؤكده السنة النبوية المطهرة، فقد نهى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن الاستيطان في المسجد، كما ورد في الحديث الشريف: «أن يُوَطِّن الرجل المكان في المسجد كما يُوَطِّن البعير». والمراد بذلك أن يتخذ لنفسه مكانًا ثابتًا ومحددًا في المسجد، ويمنع غيره من الجلوس فيه، وكأنه أصبح ملكًا خالصًا له.

إن العبادة في ديننا الحنيف لا تقوم أبدًا على المنافسة المذمومة أو إيذاء الآخرين. فالحرص على فعل الخير لا يتحقق أبدًا بظلم الآخرين ولو كان غير مقصود، أو سلبهم حقوقهم في الصفوف الأمامية. كم من شخص حُرم من مكان في الصفوف الأولى لأنه تأخر بضع دقائق، بينما ظلت الأماكن محجوزة لأشخاص لم يحضروا بعد، أليس في هذا الفعل اعتداء واضح على مبدأ «المسارعة إلى الخيرات»؟.

فلنجعل من ليالي العشر الأواخر مدرسة عملية لتهذيب نفوسنا وتزكية أرواحنا، وليس مجرد ميدان للإكثار من الركعات والسجود. ولنتذكر دائمًا وأبدًا أن استقامة السلوك وحسن المعاملة في المسجد عبادة عظيمة، لا تقل أجرًا وثوابًا عن طول القيام والركوع فيه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة